الاثنين، 5 أبريل 2010
من أرشيف فنان مصري
صور وأوراق محمود مختار
(1891 ـ 1934)
عماد أبو غازي
مجموعات الأوراق الخاصة للشخصيات السياسية والثقافية والفنية من المصادر المهمة لدراسة التاريخ، فمثل هذه المجموعات بما تضمه من مذكرات وخواطر وخطابات وصور فوتوغرافية وتذكرات تعكس ملامح خافية من حياة من لعبوا أدوارا في تاريخ الإنسانية وأسهموا في إثراء تراثها، كما تكشف عن جوانب مستترة في التاريخ.
وللأسف فإن الأرشيفات القومية لا تستطيع أن تحصل على مثل هذه الأوراق الخاصة إلا إذا كان لدى أصحابها أو ورثتهم الوعي والحس التاريخيين بأهمية هذه الأوراق وبضرورة إتاحتها للباحثين والمهتمين من خلال دور الأرشيف والمتاحف والمكتبات العامة.
وقد اهتم مشروع ذاكرة مصر المعاصرة منذ اللحظة الأولى بجمع مثل هذه الأوراق فضم الموقع مجموعات من الوثائق والصور والأوراق الخاصة لشخصيات سياسية وعلمية وثقافية لعبت أدوارا مهمة في تاريخ مصر في القرنين الماضيين، مثل: أوراق الرئيس الراحل أنور السادات، وأرشيف أسرة غالي، وأوراق دائرة محمد باشا محمود، وأوراق علي باشا إبراهيم، وأوراق يوسف درويش، وأوراق آخرين غيرهم.
واليوم نقدم بعض نماذج من الأوراق الخاصة لواحد من رواد النهضة الثقافية والفنية في القرن العشرين، إنها جولة في أرشيف المثال مختار.
لقد توفي مختار في 27 مارس سنة 1934 وترك تراثا فنيا ضخما ومشروعات عديدة لم تكتمل، وأوراقا وصورا تشكل أرشيفا لحياته الفنية والخاصة، يضم عشرات الصور الفوتوغرافية لأعماله الفنية التي لم يعرف مصير بعضها، فضلا عن صوره الشخصية وصوره مع أصدقائه في مناسبات متعددة، وبعض صور لإصدقائه وللشخصيات التي نحت لها تماثيلا، كما يضم هذا الأرشيف بعض الخطابات الشخصية، وبعض الأوراق الخاصة، كذلك يحوي أوراقا تتعلق بالعمل في تمثال نهضة مصر، وبعض أوراق "جماعة الخيال" التي شارك مختار في تأسيسها في العشرينيات من القرن الماضي، وكانت تضم مجموعة من الفنانيين والأدباء المصريين والأجانب المقيمين في مصر.
وقد تجمع هذا الأرشيف من ثلاثة مصادر رئيسية، أولها ما آل إلى الأسرة وحافظ عليه ابن شقيقته بدر الدين أبو غازي، بل أضاف إليه مما جمعه من أوراق وصور كانت لدى أصدقاء مختار، وما تجمع لدى أحد تلامذته المهتمين بإحياء تراثه الفنان الراحل علي كامل الديب الذي كان سكرتير ا عاما لجمعية أصدقاء مختار في مراحلها الأخيرة، ثم ما احتفظت به صديقته الفرنسية مارسيل دوبري.
وقد أودعت أسرة مختار نماذج من هذا الأرشيف في متحفه بالقاهرة القائم بحديقة الحرية بالجزيرة، كما نشر بدر الدين أبو غازي مجموعة مهمة من وثائق مختار وصوره وأوراقه التي يضمها أرشيفه الخاص في كتابيه عن مختار: "مختار حياته وفنه" 1949، و"المثال مختار" 1964، وفي كتابه المشترك مع الناقد جبرائيل بقطر "مختار ونهضة مصر" الذي صدر بالفرنسية عام 1950.
لكن أرشيف مختار غني بالصور والوثائق التي لم تنشر من قبل، والتي تضم كثيرا من التفاصيل الصغيرة المهمة عن حياة مختار وفنه، وعن الحياة الفنية والثقافية والاجتماعية، بل والحياة السياسية في ذلك العصر الذي عاش فيه مختار، وكان العصر عصر تحول في تاريخ مصر.
*******
والمثال مختار هو محمود مختار إبراهيم العيسوي، وقد ولد يوم 10 مايو سنة 1891 بقرية طنبارة من قرى محافظة الغربية، وهي قرية صغيرة قريبة من مدينة المحلة الكبرى، كان أبوه الشيخ إبراهيم العيسوي عمدة للقرية، أما أمه نبوية البدراوي فكانت ابنه للبدراوي أحمد عمدة قرية نشا السابق الذي نفاه الخديوي إسماعيل إلى السودان وصادر أملاكه بسبب مواقفه المعارضة لسياسته. وقرية نشا تتبع مركز طلخا بمحافظة الدقهلية الآن.
كانت نبوية البدراوي الزوجة الثانية للشيخ إبراهيم العيسوي، تزوجها بعد وفاة زوجته الأولى، وكانت في سن أبنائه من تلك الزوجة المتوفاه، وقد أنجبت له مختارا وبنتين تصغرانه سنا، لكن نبوية البدراوي لم تستمر كثيرا مع زوجها الشيخ الكبير، وانفصلت عنه عندما أحست بأنه يميز أبناءه من زوجته الأولى عن أبنائه منها، وعادت أم مختار إلى قريتها نشا، وهناك نشأ مختار، وأمضى طفولته، وصنع تماثيله الأولى من الطين على ضفاف الترعة.
ومع مطلع القرن العشرين انتقلت السيدة نبوية البدراوي إلى القاهرة لتعيش فيها بعد عودتها من رحلة للحج، وسرعان ما لحق بها ابنها مختار، عندما رآه الشيخ محمد أبو غازي أحد رجال قريته نشا يبكي على الطريق مفتقدا أمه وشقيقتاه، فقرر أن يصحبه معه إلى القاهرة غير مبال بغضب أخواله، فتغير مصير مختار وهو في الحادية عشرة من عمره، ليصبح بعد سنوات نحات مصر الأول في عصره وليترك لنا في حياته الفنية القصيرة التي أمضاها بين القاهرة وباريس قرابة مائة تمثال معظمها بمتحفه بحديقة الحرية بالجزيرة.
وفي القاهرة شق مختار لنفسه طريقا جديدا لحياته عندما افتتح الأمير يوسف كمال مدرسة الفنون الجميلة بقصره بدرب الجماميز، أحد أحياء القاهرة، وعين فيها عددا من الأساتذة الأوروبيين، وكان مختار أول طالب يلتحق بالمدرسة الجديدة. وفي أوراق مختار الخاصة صورة لأحد هؤلاء الأساتذة الأوائل في الكلية الذين درسوا لمختار، هو الإيطالي بول فورشيللا.
الجمعة، 30 نوفمبر 2007
الزعيم والطاغية
عندما توفي الزعيم سعد زغلول في 23 أغسطس سنة 1927 شيعته جماهير الشعب المصري في جنازة مهيبة شارك فيها عشرات الآلاف من المصريين، وبعد أن انتهت مراسم الحداد الرسمي والحزن الشعبي الذي فاق الوصف، بدأ التفكير في خطوات تخليد ذكرى زعيم الأمة، وكانت الوزارة التي تتولى الحكم وزارة ائتلافية يؤيدها الوفد المصري.
وكان من القرارات التي اتخذتها الحكومة لتخليد ذكرى سعد شراء بيته واعتباره من الأملاك العامة لصيانة آثار سعد الباقية فيه، وتشييد ضريح يليق بالزعيم، ينقل إليه جثمانه بعد الانتهاء من تشييده، على أن يستلهم تصميمه من خطوط العمارة المصرية القديمة، وتقرر أن يشيد الضريح في أرض خالية بالقرب من بيت سعد الذي عرف باسم "بيت الأمة" منذ بدأ الرجل يقود حركة الشعب المصري نحو الاستقلال أواخر عام 1918.
كما قررت الحكومة كذلك إقامة تمثالين للزعيم واحد في القاهرة والثاني في الإسكندرية، واستدعت الحكومة المثال مختار من باريس لتكلفه بإقامة التمثالين، كان مختار وقتها أبرز نحات مصري، وكانت له قصة طويلة مع الثورة المصرية، ثورة 1919 منذ عبر عنها بتمثاله الرائع نهضة مصر الذي التف حوله الشعب بكل طبقاته، وتحمس مختار للفكرة ولبى الدعوة واعتبر المهمة عملا قوميا يتيح له تسجيل حياة الشعب المصري وكفاحه ومثله السياسية التي كان يناضل من أجله من خلال تمثالي الزعيم، وكانت فكرة التمثالين حاضرة في ذهن مختار، فهو القائل: "إن في وجدان كل مصري ولو لم يكن فنانا تمثالا لسعد زغلول".
وتقرر أن يقام تمثال القاهرة في ميدان قصر النيل بينما يقام تمثال الإسكندرية في محطة الرمل، وأراد مختار أن يكون عمله صرحا كبيرا يرتفع إلى عنان السماء ليرفع زعيم الأمة إلى المكانة التي يستحقها.
وتعاقدت الحكومة مع مختار وتقرر في العقد أن يعهد إلى الفنان بالتنفيذ الكامل، وأن تكون الحكومة طرفا في التعاقد معه، تلتزم بما تقضي به أحكام العقد دون تدخل في عمل المثال، أو في الجوانب الفنية.
وكان من الممكن أن تسير الأمور في مسارها الطبيعي ويشيد الضريح وينقل إليه جثمان سعد، ويرتفع التمثالان في القاهرة والإسكندرية، خاصة أن مختار كان يطمح في إنهاء العمل خلال عام واحد فقط. لكن الملك فؤاد كان يعتبر سعدا حتى بعد وفاته خصما لدودا له، كما كان للزعيم خصومه السياسيون من بين الساسة ورجال الأحزاب الموالين للسرايا والإنجليز. ولم ينس خصوم سعد للرجل مواقفه خاصة في سنواته الأخيرة، وقيادته لثورة الشعب عام 1919، ودفاعه المجيد عن إقامة حياة دستورية سليمة، لقد كانت القوى الرجعية تتحين كل فرصة للانقضاض على المكاسب الديمقراطية التي حققتها ثورة 1919، وتحرص دائما على حصار الحريات العامة التي اكتسبها الشعب بكفاحه، وتسعى إلى تحطيم رموز الحرية الفكرية.
وعندما وقع الانقلاب الدستوري في عام 1930، وجاءت إلى الحكم وزارة إسماعيل صدقي باشا الموالية للسراي والمعادية للشعب توالت الاعتداءات على الدستور وعلى حرية الفكر والتعبير في البلاد، فألغي دستور 1923 ليحل محله دستور 1930 الذي زاد من سلطات الملك على حساب سلطات البرلمان المنتخب وعلى حساب حقوق الشعب، وتعرض كثير من المفكرين لعدوان السلطة، فسجن العقاد بتهمة العيب في الذات الملكية، وأبعد طه حسين عن الجامعة، فاستقال أحمد لطفي السيد من منصبه كمدير للجامعة المصرية، وفصل حافظ إبراهيم من دار الكتب المصرية، أما مختار فكان نصيبه من الهجمة الرجعية عرقلة العمل في مشروع تمثالي سعد زغلول بالقاهرة والإسكندرية، وكان الهدف من العرقلة مزدوجا سعد ومختار في آن واحد، فهناك "تار بايت بين الملك ومختار" منذ اختار الفلاحة رمزا يعبر به عن مصر، ومنذ نحت تماثيل شخصية لرجل العصر الذين شيدوا دعائم الحرية من أمثال عدلي يكن وعبد الخالق ثروت وسعد زغلول، ولم يعرض أن ينحت تمثالا للملك فؤاد، وعندما طلب منه ذلك وبدأ في نحت التمثال مرغما، توقف عن العمل فيه بمجرد أن أبدى فؤاد ملاحظات فنيه على العمل، ولم يتبق منه سوى صورة فوتوغرافية للتمثال في مرحلة الإعداد الأولي، وبدلا من ذلك نحت تمثالا كاريكاتيريا ساخرا من الملك، وقام بعض أصدقائه المقربين من السرايا بتحطيم التمثال حماية لمختار وخوفا عليه عندما علموا بأن خبره تسرب إلى الملك.
أما سعد فلم تكتف الحكومة بعرقلة العمل في تمثاليه، بل استولت على ضريحه ونقلت إليه مومياوت الفراعنة بحجة عدم ملائمة عرضها على الجمهور، لتشغل المكان وتوقف إجراءات نقل الجثمان.
الاثنين، 8 أكتوبر 2007
الفنان والزعيم
تمثال مجهول للزعيم سعد زغلول
عماد بدر الدين أبو غازي
يعرف الناس علاقة المثال محمود مختار بسعد زغلول، أن مختار هو مبدع تمثالى الميدان للزعيم فى القاهرة والإسكندرية، وهما التمثالان اللذان شيدهما مختار بطلب من الحكومة المصرية فى إطار حملة تخليد ذكرى سعد، بعد رحيله فى 23 أغسطس 1927، وكانا إسهاما من مختار فى الاحتفاء بذكرى الزعيم، ومختار هو القائل " إن فى وجدان كل مصرى ـ ولو لم يكن فنانا ـ تمثالا لسعد زغلول[1]".
من خلال تمثالى سعد بالقاهرة والإسكندرية سجل مختار مجموعة من القيم والمفاهيم السياسية والوطنية، فلم يكن التمثالان مجرد تجسيد لشكل الزعيم وملامحه الشخصية، ولم يكونا مجرد تمثالى ميدان كغيرهما من التماثيل التى جمّلت ميادين القاهرة منذ القرن 19. لقد كانت المرة الأولى التى يحول فيها فنان مصرى تمثال الميدان الشخصى إلى ملحمة تٌعبر عن ثورة شعب وطموحاته وأهدافه وآمانيه القومية، فقاعدة تمثال الإسكندرية قامت على مشاهد تسجيلية لأحداث ثورة 1919، ورمزين مجسمين للوجهين البحرى والقبلى. وحين صور مختار العدالة والدستور والإستقلال على قاعدة تمثال القاهرة كان يسجل أهدافا يسعى الشعب المصرى إلى تحقيقها من خلال نضاله الوطنى وحين صور أصحاب الحرف ومشاهد العمل فى الريف وعلى صفحة النهر كان يخلد أبناء هذا الشعب الذين ثاروا سنة 1919 فى نحت جدارى ميدانى لأول مرة.
لقد كان بناء قاعدة تمثال سعد الجرانيتية فى القاهرة تشكيلا متكاملا مع تمثال الزعيم الذى يعلوها، إنها ليست مجرد قاعدة ترفع التمثال ولكنها تحمل إشارة واضحة إلى أن القاعدة بما فيها من بشر وقيم وأهداف هى التى رفعت الزعيم وحملته ليحتل مكانه البارز فى وجدان وتاريخ الأمة.
كذلك يشاهد زوار متحف مختار بالجزيرة تمثالا نصفيا لسعد وتمثالا آخر لرأس سعد ـ مأخوذا عن تمثال سعد الميدانى بالقاهرة ـ وهو واحد من أروع أعمال مختار فى فن التمثال الشخصى[2].
وإذا كانت ثورة 1919 التى فجرها نفى سعد وصحبه هى البداية تفجر مختار وانطلاقه الفنى فى طريق إرساء ملامح مدرسة مصرية حديثة فى فن النحت، فقد كانت الثورة بداية لمرحلة جديدة فى حياة مصر الفكرية والفنية مثلما كانت بداية مرحلة جديدة فى حياتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية. وإذا كان مختار هو واحد من مشيدى أروع الرموز الفنية لتخليد ثورة 1919 وزعيمها، فإن ما لا يعرفه الناس عن علاقة الفنان بالزعيم، هو أن هذه العلاقة لم تسر دائما فى إتجاه التأييد والتمجيد من الفنان للزعيم بل مرت بمرحلة من الجفوة والمعارضة.
فى سياق الثورة كان لقاء مختار الأول بالوفد المصرى وزعيمه سعد، فعندما كان مختار فى باريس أشترك فى حركة الطلاب المصريين فى دعم الوفد المصرى فى مفاوضات السلام[3]، وهناك كان إسهامه الأساسى فى التعبير الفنى عن الثورة من خلال النموذج الأول لتمثال النهضة الذى عرضه فى صالون باريس 1920. وأرسل سعد خطابا لمختار فى 6 مايو 1920 يشيد بالتمثال قال فيه:
"حضرة المصور الماهر مختار.
شاهدت المثّال الذى رمزت به لنهضة مصر فوجدته أبلغ رمز للحقيقة وأنهض حجة على صحتها فأهنيك على هذا الخيال الواسع وهذا الذوق السليم وهذا الفن الساحر وأهنئ مصر بأنك من أبنائها العاملين على إعادة مجدها وأرجو الله أن يعين هذه النهضة حتى تبلغ كمالها فتشفع مثال النهضة بمثال الإستقلال والسلام."
سعد زغلول
باريس 6 مايو سنة 1920
بطل النهضة
ويتحمس بعض أعضاء الوفد للتمثال وتبدأ الدعوة فى جريدة الأخبار لأكتتاب شعبى لإقامة التمثال فى مصر..( ويعود مختار إلى مصر بطلا من أبطال نهضتها.. فتمثاله رمز للنهضة وعلامة من علامات الثورة والبعث فهو أول أثر فنى يقيمه مصرى.. ويقيمه فى عهد " السلاطين " ولكنه لا يرمز للنهضة بالحاكم وإنما يرمز لها بالشعب ويجعل الفلاحة فى الميدان العام رمزا لمصر"[4] وبدأ العمل فى التمثال إعتمادا على التبرعات الشعبية وعلى الدعم الحكومى الذى قدمته وزارة عبد الخالق ثروت ومقداره 3000 جنيه وعقب صدور دستور 23 وتشكيل أول برلمان وطنى أنبرى ويصا واصف للدفاع عن التمثال وضرورة توفير الإعتمادات الكافيه لإنجازه واستجاب سعد زغلول وكان على رأس الوزارة لهذه الدعوة إذ رأى أن حكومة النهضة يجب أن تتكفل بتمثالها[5].
وفى هذه المرحلة التى أعقبت قيام الحكم البرلمانى وما شهدته من صراعات سياسية وفكرية وانشقاقات خرجت عن الوفد المصرى، تعارضت نظرة مختار إلى سعد رئيس الحكومة ورئيس البرلمان والسياسى الذى يصارع على الساحة السياسية فى الداخل مع نظرته لسعد زعيم الأمة وقائد الثورة، ووقف مختار فى كثير من الأحيان فى مواجهة مع سعد ومواقفه وقدم من خلال مجلة " الكشكول " مجموعة من الرسوم الكاريكاتورية عرفت باسم " الزغلوليات " أنتقد فيها بعض مواقف سعد وسخر منها، كما قدم كذلك رسوما كاريكاتورية ساخرة فى " السياسة الأسبوعية " ، ومن اللافت للنظر أن كثيرا من الأدباء والمفكرين ذوى الميول الليبرالية والديمقراطية قد أنحازوا فى هذه الفترة إلى جانب حزب الأحرار الدستوريين أو التفوا حول جريدته الأسبوعية التى كانت فى تلك المرحلة من العشرينات أحد أهم المنابر الثقافية فى مصر. وربما يرجع ذلك إلى أن حزب الأحرار كان منحازا بالكامل إلى جانب حرية الفكر فى بعض القضايا التى أثيرت فى تلك الفترة، بينما كان الوفد متحفظا إلى حد ما ومتبنيا لمواقف أقل حسما، مثلما حدث عند إثارة قضيتى " السلام وأصول الحكم" و " الشعر الجاهلى".
كذلك كان موقف سعد من معارضيه وموقفهم الحاد منهم مجالا لإنتقاد مختار له.
ولم تقتصر إنتقادات مختار لسعد على الرسوم الكاريكاتورية، فقد نحت تمثالا لسعد يعد من أعمال النحت الكاريكاتورى النادر مثل فيه سعدا مرتديا ملابس فقراء الهنود وجالسا فى جلسة التأمل فى اليوجا ومرتديا فى نفس الوقت ياقة منشاة ورابطة عنق ( بابيون) فى إشارة إلى التعارض بين المواقف والأقوال، مع تضخيم الأذنين بشكل مبالغ فيه تلميحا إلى أن سعد يستمع إلى الوشايات التى تنقل إليه لقد حاول مختار أن يلخص فى هذا التمثال الساخر رأيه الناقد لسعد فى مرحلة من مراحل حياته السياسة.
وقد ظل هذا التمثال مجهولا لعشرات السنين إلى أن كشف عنه فى محاضرة ألقيت بمتحف مختار أثناء الإحتفال بالعيد المئوى لميلاد مختار[6]، ولا يزال التمثال فى حوزة أسرة مختار إلى الآن[7] والتمثال قد صب فى الجبس ويمثل مع مجموعة آخرى من التماثيل الساخرة أحد جوانب فن مختار. التى لم يلق عليها الضوء الكافى بعد ومن هذه التماثيل الساخرة تمثالا صديقى مختار حسين رجب ومحمد شفيق، ولعل أشهرها تمثال ابن البلد، والذى يرجع إلى مرحلة دراسة مختار فى مدرسة الفنون بالقاهرة.
وقد أثارت رسوم مختار وانتقاداته حفيظة سعد عليه وأدت إلى قطيعة بينهما دامت سنوات إلى أن التقيا مصادفة فى فندق ميناهاوس وتصافيا وتصالحا، ثم قام بعدها سعد بزيارته الشهيرة لموقع العمل فى تمثال النهضة بصحبة جماعة من الساسة والأدباء والصحفيين، وقد أحتفى مختار بسعد إحتفاء بالغا فى تلك الزيارة التى كانت من أيام الوداع فى حياة سعد فلم يمهل القدر مختارا حتى يحظى بمشاركة سعد فى حفل إزاحة الستار عن تمثال النهضة بسبب مماطلات الحكومة التى أجلت الحفل لشهور طوال كان سعد قد فارق الحياة.
لقد إنقضت بذهاب سعد تفاصيل الخلافات العابرة والإنتقادات الساخرة ولم يبق إلا الرمز الذى خلفه كزعيم للأمة واستوحاه مختار فى تمثاليه الميدانيين لسعد، هذان التمثالان اللذان تسببا فيما لاقاه مختار من عنت وإضطهاد فى سنواته الأخيرة ورحل قبل أن يراهما قائمين فى مكانيهما[8]، مثلما رحل سيد درويش قبل أن يستمع إلى الجماهير وهى تنشد لحنه فى إستقبال سعد عند عودته من منفاه فى المرة الثانية.
مصرنا وطنا سعدها أملنا
كلنا جميعا للوطن ضحية
[1] بدر الدين أبو غازى: المثال مختار ، الدار القومية للطباعة والنشر، 1964، ص 59.
[2] حول تماثيل مختار عن سعد أنظر: بدر الدين أبو غازى: مختار حياته وفنه، مطبعة مصر، 1949، ص 82 ـ 88 وص 121ـ 124. والمثال مختار، ص 22ـ 24. أنظر كذلك رأى العقاد الناقد للتمثالين فى:
عباس محمود العقاد: سعد زغلول سيرة وتحية مطبعة حجازى، 1936 ص 619ـ 620.
[3] داود عزيز: مختار رائدا ( مجلة الطليعة، مارس 1969) ، ص 64.
[4] المثال مختار، ص 18.
[5] مختار حياته وفنه، ص 41ـ 42.
[6] عماد أبو غازى مختار وسعد زغلول ، محاضرة ألقيت فى متحف مختار يوم 5 أغسطس 1991.
[7] رأت أسرة مختار أنه من غير المناسب الكشف عن التمثال وعرضه فى وقت كان هناك قدر كبير من الغبن يحيط بثورة 1919 وزعمائها، ومع تغير الظروف أصبح من الضرورى الكشف عن التمثال وعرضه على الناس.
[8] المثال مختار، ص 59 ـ 65.
تمثال مجهول للزعيم سعد زغلول
عماد بدر الدين أبو غازي
يعرف الناس علاقة المثال محمود مختار بسعد زغلول، أن مختار هو مبدع تمثالى الميدان للزعيم فى القاهرة والإسكندرية، وهما التمثالان اللذان شيدهما مختار بطلب من الحكومة المصرية فى إطار حملة تخليد ذكرى سعد، بعد رحيله فى 23 أغسطس 1927، وكانا إسهاما من مختار فى الاحتفاء بذكرى الزعيم، ومختار هو القائل " إن فى وجدان كل مصرى ـ ولو لم يكن فنانا ـ تمثالا لسعد زغلول[1]".
من خلال تمثالى سعد بالقاهرة والإسكندرية سجل مختار مجموعة من القيم والمفاهيم السياسية والوطنية، فلم يكن التمثالان مجرد تجسيد لشكل الزعيم وملامحه الشخصية، ولم يكونا مجرد تمثالى ميدان كغيرهما من التماثيل التى جمّلت ميادين القاهرة منذ القرن 19. لقد كانت المرة الأولى التى يحول فيها فنان مصرى تمثال الميدان الشخصى إلى ملحمة تٌعبر عن ثورة شعب وطموحاته وأهدافه وآمانيه القومية، فقاعدة تمثال الإسكندرية قامت على مشاهد تسجيلية لأحداث ثورة 1919، ورمزين مجسمين للوجهين البحرى والقبلى. وحين صور مختار العدالة والدستور والإستقلال على قاعدة تمثال القاهرة كان يسجل أهدافا يسعى الشعب المصرى إلى تحقيقها من خلال نضاله الوطنى وحين صور أصحاب الحرف ومشاهد العمل فى الريف وعلى صفحة النهر كان يخلد أبناء هذا الشعب الذين ثاروا سنة 1919 فى نحت جدارى ميدانى لأول مرة.
لقد كان بناء قاعدة تمثال سعد الجرانيتية فى القاهرة تشكيلا متكاملا مع تمثال الزعيم الذى يعلوها، إنها ليست مجرد قاعدة ترفع التمثال ولكنها تحمل إشارة واضحة إلى أن القاعدة بما فيها من بشر وقيم وأهداف هى التى رفعت الزعيم وحملته ليحتل مكانه البارز فى وجدان وتاريخ الأمة.
كذلك يشاهد زوار متحف مختار بالجزيرة تمثالا نصفيا لسعد وتمثالا آخر لرأس سعد ـ مأخوذا عن تمثال سعد الميدانى بالقاهرة ـ وهو واحد من أروع أعمال مختار فى فن التمثال الشخصى[2].
وإذا كانت ثورة 1919 التى فجرها نفى سعد وصحبه هى البداية تفجر مختار وانطلاقه الفنى فى طريق إرساء ملامح مدرسة مصرية حديثة فى فن النحت، فقد كانت الثورة بداية لمرحلة جديدة فى حياة مصر الفكرية والفنية مثلما كانت بداية مرحلة جديدة فى حياتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية. وإذا كان مختار هو واحد من مشيدى أروع الرموز الفنية لتخليد ثورة 1919 وزعيمها، فإن ما لا يعرفه الناس عن علاقة الفنان بالزعيم، هو أن هذه العلاقة لم تسر دائما فى إتجاه التأييد والتمجيد من الفنان للزعيم بل مرت بمرحلة من الجفوة والمعارضة.
فى سياق الثورة كان لقاء مختار الأول بالوفد المصرى وزعيمه سعد، فعندما كان مختار فى باريس أشترك فى حركة الطلاب المصريين فى دعم الوفد المصرى فى مفاوضات السلام[3]، وهناك كان إسهامه الأساسى فى التعبير الفنى عن الثورة من خلال النموذج الأول لتمثال النهضة الذى عرضه فى صالون باريس 1920. وأرسل سعد خطابا لمختار فى 6 مايو 1920 يشيد بالتمثال قال فيه:
"حضرة المصور الماهر مختار.
شاهدت المثّال الذى رمزت به لنهضة مصر فوجدته أبلغ رمز للحقيقة وأنهض حجة على صحتها فأهنيك على هذا الخيال الواسع وهذا الذوق السليم وهذا الفن الساحر وأهنئ مصر بأنك من أبنائها العاملين على إعادة مجدها وأرجو الله أن يعين هذه النهضة حتى تبلغ كمالها فتشفع مثال النهضة بمثال الإستقلال والسلام."
سعد زغلول
باريس 6 مايو سنة 1920
بطل النهضة
ويتحمس بعض أعضاء الوفد للتمثال وتبدأ الدعوة فى جريدة الأخبار لأكتتاب شعبى لإقامة التمثال فى مصر..( ويعود مختار إلى مصر بطلا من أبطال نهضتها.. فتمثاله رمز للنهضة وعلامة من علامات الثورة والبعث فهو أول أثر فنى يقيمه مصرى.. ويقيمه فى عهد " السلاطين " ولكنه لا يرمز للنهضة بالحاكم وإنما يرمز لها بالشعب ويجعل الفلاحة فى الميدان العام رمزا لمصر"[4] وبدأ العمل فى التمثال إعتمادا على التبرعات الشعبية وعلى الدعم الحكومى الذى قدمته وزارة عبد الخالق ثروت ومقداره 3000 جنيه وعقب صدور دستور 23 وتشكيل أول برلمان وطنى أنبرى ويصا واصف للدفاع عن التمثال وضرورة توفير الإعتمادات الكافيه لإنجازه واستجاب سعد زغلول وكان على رأس الوزارة لهذه الدعوة إذ رأى أن حكومة النهضة يجب أن تتكفل بتمثالها[5].
وفى هذه المرحلة التى أعقبت قيام الحكم البرلمانى وما شهدته من صراعات سياسية وفكرية وانشقاقات خرجت عن الوفد المصرى، تعارضت نظرة مختار إلى سعد رئيس الحكومة ورئيس البرلمان والسياسى الذى يصارع على الساحة السياسية فى الداخل مع نظرته لسعد زعيم الأمة وقائد الثورة، ووقف مختار فى كثير من الأحيان فى مواجهة مع سعد ومواقفه وقدم من خلال مجلة " الكشكول " مجموعة من الرسوم الكاريكاتورية عرفت باسم " الزغلوليات " أنتقد فيها بعض مواقف سعد وسخر منها، كما قدم كذلك رسوما كاريكاتورية ساخرة فى " السياسة الأسبوعية " ، ومن اللافت للنظر أن كثيرا من الأدباء والمفكرين ذوى الميول الليبرالية والديمقراطية قد أنحازوا فى هذه الفترة إلى جانب حزب الأحرار الدستوريين أو التفوا حول جريدته الأسبوعية التى كانت فى تلك المرحلة من العشرينات أحد أهم المنابر الثقافية فى مصر. وربما يرجع ذلك إلى أن حزب الأحرار كان منحازا بالكامل إلى جانب حرية الفكر فى بعض القضايا التى أثيرت فى تلك الفترة، بينما كان الوفد متحفظا إلى حد ما ومتبنيا لمواقف أقل حسما، مثلما حدث عند إثارة قضيتى " السلام وأصول الحكم" و " الشعر الجاهلى".
كذلك كان موقف سعد من معارضيه وموقفهم الحاد منهم مجالا لإنتقاد مختار له.
ولم تقتصر إنتقادات مختار لسعد على الرسوم الكاريكاتورية، فقد نحت تمثالا لسعد يعد من أعمال النحت الكاريكاتورى النادر مثل فيه سعدا مرتديا ملابس فقراء الهنود وجالسا فى جلسة التأمل فى اليوجا ومرتديا فى نفس الوقت ياقة منشاة ورابطة عنق ( بابيون) فى إشارة إلى التعارض بين المواقف والأقوال، مع تضخيم الأذنين بشكل مبالغ فيه تلميحا إلى أن سعد يستمع إلى الوشايات التى تنقل إليه لقد حاول مختار أن يلخص فى هذا التمثال الساخر رأيه الناقد لسعد فى مرحلة من مراحل حياته السياسة.
وقد ظل هذا التمثال مجهولا لعشرات السنين إلى أن كشف عنه فى محاضرة ألقيت بمتحف مختار أثناء الإحتفال بالعيد المئوى لميلاد مختار[6]، ولا يزال التمثال فى حوزة أسرة مختار إلى الآن[7] والتمثال قد صب فى الجبس ويمثل مع مجموعة آخرى من التماثيل الساخرة أحد جوانب فن مختار. التى لم يلق عليها الضوء الكافى بعد ومن هذه التماثيل الساخرة تمثالا صديقى مختار حسين رجب ومحمد شفيق، ولعل أشهرها تمثال ابن البلد، والذى يرجع إلى مرحلة دراسة مختار فى مدرسة الفنون بالقاهرة.
وقد أثارت رسوم مختار وانتقاداته حفيظة سعد عليه وأدت إلى قطيعة بينهما دامت سنوات إلى أن التقيا مصادفة فى فندق ميناهاوس وتصافيا وتصالحا، ثم قام بعدها سعد بزيارته الشهيرة لموقع العمل فى تمثال النهضة بصحبة جماعة من الساسة والأدباء والصحفيين، وقد أحتفى مختار بسعد إحتفاء بالغا فى تلك الزيارة التى كانت من أيام الوداع فى حياة سعد فلم يمهل القدر مختارا حتى يحظى بمشاركة سعد فى حفل إزاحة الستار عن تمثال النهضة بسبب مماطلات الحكومة التى أجلت الحفل لشهور طوال كان سعد قد فارق الحياة.
لقد إنقضت بذهاب سعد تفاصيل الخلافات العابرة والإنتقادات الساخرة ولم يبق إلا الرمز الذى خلفه كزعيم للأمة واستوحاه مختار فى تمثاليه الميدانيين لسعد، هذان التمثالان اللذان تسببا فيما لاقاه مختار من عنت وإضطهاد فى سنواته الأخيرة ورحل قبل أن يراهما قائمين فى مكانيهما[8]، مثلما رحل سيد درويش قبل أن يستمع إلى الجماهير وهى تنشد لحنه فى إستقبال سعد عند عودته من منفاه فى المرة الثانية.
مصرنا وطنا سعدها أملنا
كلنا جميعا للوطن ضحية
[1] بدر الدين أبو غازى: المثال مختار ، الدار القومية للطباعة والنشر، 1964، ص 59.
[2] حول تماثيل مختار عن سعد أنظر: بدر الدين أبو غازى: مختار حياته وفنه، مطبعة مصر، 1949، ص 82 ـ 88 وص 121ـ 124. والمثال مختار، ص 22ـ 24. أنظر كذلك رأى العقاد الناقد للتمثالين فى:
عباس محمود العقاد: سعد زغلول سيرة وتحية مطبعة حجازى، 1936 ص 619ـ 620.
[3] داود عزيز: مختار رائدا ( مجلة الطليعة، مارس 1969) ، ص 64.
[4] المثال مختار، ص 18.
[5] مختار حياته وفنه، ص 41ـ 42.
[6] عماد أبو غازى مختار وسعد زغلول ، محاضرة ألقيت فى متحف مختار يوم 5 أغسطس 1991.
[7] رأت أسرة مختار أنه من غير المناسب الكشف عن التمثال وعرضه فى وقت كان هناك قدر كبير من الغبن يحيط بثورة 1919 وزعمائها، ومع تغير الظروف أصبح من الضرورى الكشف عن التمثال وعرضه على الناس.
[8] المثال مختار، ص 59 ـ 65.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)