الجمعة، 29 يونيو 2007


مظروف خطاب مرسل إلى مختار على موقع العمل بالتمثال

الأحد، 10 يونيو 2007


صور متنوعة لتمثال النهضة




مختار ونهضة مصر



في أثناء الحرب العالمية الأولى تغير الوضع السياسي في مصر، وتوفي السلطان حسين كامل وتولى أحمد فؤاد السلطنة من بعده وانتهت الحرب العالمية الأولى في نوفمبر 1918 وبدأ تاريخ مصر السياسي في التغير. ففي اليوم التالي لانتهاء الحرب، توجهت مجموعة من الساسة المصريين وعلى رأسهم الزعيم سعد زغلول إلى دار المعتمد البريطاني يطالبونه بإنهاء الأحكام العرفية والسماح لوفد من المصريين للسفر للمشاركة في مؤتمر الصلح في باريس، وكان ذلك في اليوم الذي أصبح يعرف في تاريخنا الوطني بيوم (عيد الجهاد الوطني) وهو يوم 13 نوفمبر، وظلت مصر تحتفل به كل عام باعتباره عيدًا من أعيادنا الوطنية إلى أن توقف الاحتفال به بعد عام 1952.
وفي أعقاب حركة القادة السياسيين للمطالبة بالمشاركة في مؤتمر الصلح، تصاعدت الأحداث السياسية كما نعرفها جميعًا وبدأت حركة جمع التوكيلات للوفد ليمثل مصر في هذا المؤتمر وانتهى الأمر بالقبض على سعد زغلول ورفاقه ونفيهم إلى جزيرة مالطة، فانفجرت الثورة الشعبية المصرية في 9 مارس سنة 1919. وكانت هذه الأحداث الدامية في مصر التي انتهت بإرغام قوات الاحتلال على السماح بذهاب الوفد المصري لمؤتمر الصلح في باريس والإفراج عن سعد زغلول وزملائه، هي التي ألهمت الفنان الشاب مختار ـ الذي كان لا يزال يعمل في باريس ويتعاون مع لجنة الطلبة المصريين التي أصبحت سكرتارية تساعد وتدعم حركة الوفد المصري في المفاوضات ـ بأن يستخدم فن النحت في تجسيد رمز لهذا الحدث المهم في تاريخنا "الثورة المصرية". وفي البداية صنع مختار نموذجًا لتمثال "نهضة مصر"، وكان هذا النموذج يصور رجلاً عربيًّا يرتدي عقالاً وفي يده سيف يستعد لرفعه، فقد كان هذا هو الشكل الأول الذي تصوره مختار لتمثال النهضة، لكن بعد أن انتهى منه قام بتحطيمه ولم يتبقَ منه غير صورة له نشرها الناقد المصري
الراحل جبرائيل بقطر في مقال له منشور ضمن كتيب صدر عام 1944 بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل مختار.
وبعد أن حطم مختار نموذجه الأول لتمثال النهضة انتقل بعد ذلك إلى نحت نموذج جديد للتمثال، تمثال "نهضة مصر" بشكله الحالي الذي نعرفه جميعا. وقد غير فيه تمامًا الفكرة الأساسية التي كانت قائمة في التمثال الأول، فانتقل إلى اختيار نموذج مختلف يصور الفلاحة المصرية وتمثال أبي الهول الذي ينهض من كبوته أو من صمته. وكان النموذج الثاني للتمثال والذي عرضه مختار في باريس هو الذي حصل على شهادة تقدير من معرض الفنانين الفرنسيين، وفي هذا الوقت وصل سعد زغلول وزملائه إلى فرنسا للمشاركة كمراقبين في مؤتمر الصلح في باريس، وشاهد سعد زغلول التمثال وكتب كلمات إلى مختار يحيي فيها هذا العمل، وتقول هذه الكلمات:

"حضرة المصور الماهر مختار، شاهدت المثال الذي رمزت به لنهضة مصر فوجدته أبلغ رمز للحقيقة و أنهض حجة على صحتها، فأهنئك على هذا الخيال الواسع وهذا الذوق السليم وهذا الفن الساحر و أهنئ مصر أنك من أبنائها العاملين على إحياء حاضرها وأرجو أن تتم هذه النهضة حتى تبلُغ كمالها وتشفع تمثال النهضة بتمثال الاستقلال
والسلام."
سعد زغلول
باريس 9 مايو سنة 1920
هذه الرسالة وثيقة نادرة كتبها سعد زغلول تحية لمختار على تمثال "نهضة مصر".


الجمعة، 8 يونيو 2007


صورة فوتوغرافية
لأول معرض لطلاب مدرسة الفنون الجميلة أقيم
سنة 1911 بنادي الأوتومبيل المصري
وفي يسار الصورة يظهر التمثال الذي نحته مختار لزميل دراسته الفنان محمد حسن



مختار في القاهرة




سنوات الدراسة ومدرسة الفنون



صورة فوتوغرافية نادرة من الأرشيف الخاص لمختار

الصورة لأستاذه بول فورشيلا أحد الأساتذة الأوائل

في مدرسة الفنون الجميلة بحي درب الجماميز

بالقاهرة





كانت الفترة التي انتقل فيها مختار إلى القاهرة تشهد صعودًا للحركة الوطنية بقيادة مصطفى كامل الذي أسس فيما بعد في عام 1907 الحزب الوطني في أعقاب حادثة دنشواي. وفي أعقاب وفاة مصطفى كامل في أوائل عام 1908، انتقلت زعامة الحركة الوطنية إلى محمد فريد، وفي هذا العام 1908 شهدت مصر حدثين تاريخين مهمين على المستوى الثقافي، وكانت لهما انعكاساتهما السياسية والاجتماعية: افتتاح الجامعة الأهلية المصرية في شهر ديسمبر، تلك الجامعة التي تأسست برعاية مجموعة من المفكرين والمثقفين وبعض أفراد الأسرة الخديوية الحاكمة، وكان منهم الأمير أحمد فؤاد (الملك فؤاد فيما بعد) وأخته الأميرة فاطمة إسماعيل التي تبرعت بأملاكها وأراضيها لإنشاء الجامعة المصرية والإنفاق عليها، أما الحدث الثاني والذي وقع قبلها بشهور، وعلى وجه التحديد في مايو من نفس العام، فكان إنشاء مدرسة الفنون الجميلة على يد الأمير يوسف كمال، لقد كانت محاولة جريئة لإنشاء أول مدرسة للفنون على غرار المدارس الفنية الأوروبية تعتمد على استقدام مجموعة من الفنانين الأوروبيين لتعليم الشباب المصري أصول الفن التشكيلي. وكان محمود مختار أول طالب يلتحق بهذه المدرسة يوم افتتاحها في مايو من عام 1908، كان أول طالب يقف على باب المدرسة في انتظار اجتياز امتحان القبول، وفي أثناء وقوفه على الباب رسم على الحائط رسمًا شاهده ناظر المدرسة فقبل مختار في المدرسة فورًا، وقد التحقت بالمدرسة مجموعة من فناني الجيل الأول من التشكيلين المصريين مثل راغب عيَّاد ويوسف كامل ومحمد حسن وغيرهم لكي تبدأ مسيرة جديدة في الفن المصري بعد ما كان الفنان المصري لا يمارس إلا الفنون التقليدية التي ورثها عن الأجداد منذ العصور الوسطى، لقد بدأت بافتتاح تلك المدرسة مرحلة جديدة من تاريخ النهضة الفنية في مصر.
وفي عام 1911، أقيم أول معرض لطلاب مدرسة الفنون في القاهرة، وكانت أغلب الأعمال أقرب للزخرفة، وكان هذا المعرض أول تقديم لجيل مختار للمجتمع المصري، ولأول مرة يقدم شبان مصريون أعمالهم التشكيلية من النحت والتصوير وغيرها من الأعمال الفنية في معرض عام يشاهده الجمهور بعد أن كانت كل الأعمال الفنية الحديثة الموجودة في ميادين القاهرة أو في منازل الأثرياء أو في المعارض القليلة التي تقام في صالات العرض من أعمال لفنانين أوروبيين
وكانت القاهرة قد عرفت تماثيل الميادين في الفترة الحديثة منذ فترة مبكرة في القرن التاسع عشر ـ وأقول الحديثة لأنه في العصور الوسطى كانت هناك تماثيل أيضًا على رؤوس الجسور والكباري والقناطر، وكان يُطلق على ميدان السيدة زينب اسم ميدان "قناطر السباع"، حيث كانت هناك قنطرة أو كوبري عليه تماثيل لأسود ـ أما في القرن التاسع عشر فقد بدأ استقدام نحاتين أوروبيين لنحت تماثيل لأفراد أسرة محمد علي، ومنها تمثال محمد علي وتمثال إسماعيل في الإسكندرية وتمثال إبراهيم باشا في القاهرة وتماثيل لكبار رجال الدولة مثل لاظوغلي ونوبار وسليمان باشا الفرنساوي، وكانت التماثيل جميعها من عمل فنانين أوروبيين، حتى تمثال الزعيم مصطفى كامل الذي أقيم عقب وفاته صنعه نحات أوروبي وليس نحاتا مصريا، وقد أقيم التمثال بأول اكتتاب يتم في مصر لإقامة تمثال، إلا أنه لم يكن اكتتابا شعبيا واسعا مثل الاكتتاب الذي تم لإقامة تمثال نهضة مصر، إنما كان اكتتابا داخل إطار الحزب الوطني وأنصاره.
وفي أعقاب إنهاء مختار لدراسته في عام 1911، خرج في أول بعثة مصرية لدراسة الفنون الجميلة في باريس بمنحة من الأمير يوسف كمال، وكما ذكر الدكتور مصطفى الرزاز في تقديمه أن مختار عندما ذهب إلى باريس أعاد اكتشاف نفسه مرة ثانية وأعاد اكتشاف مصريته ومن الممكن القول بأن أعمال المرحلة الأولى من الدراسة هي أعمال مدرسية طبق فيها مختار المعايير التقليدية التي تعلمها في مدرسة الفنون والمعايير الأوروبية التقليدية لفن النحت. لكن، عندما ذهب إلى باريس عرف الجانب الآخر، فقد أعاد النظر في فن النحت المصري القديم وأعاد صياغته مرة أخرى في لحظة من لحظات التمرد وتحطيم ثوابت الفن التشكيلي وثوابت المجتمع التي كانت سائدة في هذا الوقت.
وخلال دراسة مختار في باريس قامت الحرب العالمية الأولى وقام الإنجليز بعزل الخديوي عباس حلمي الثاني وتعيين حسين كامل سلطانًا على مصر، وأصبحت مصر رغمًا عنها طرفًا في عمليات عسكرية تدور على أرضها. وهكذا، أصبحت مصر ساحة لحرب لا علاقة لها بها، أما مختار فقد أصبح مقطوع الصلة بمصدر تمويله وكما ذكر الدكتور مصطفى الرزاز اضطر أن يكون عاملاً في مصنع للذخيرة، وكان يقوم بنقل الذخائر التي تصنع منها دانات المدافع، واضطرت اليد التي تصنع الفن والسلام أن تنقل أداة للتدمير والقتل. وبمجرد أن اقتربت الحرب من نهايتها وجد مختار فرصة له للعمل بمتحف للتماثيل الشمعية في باريس و هو متحف "جريفان" للشمع، وفي هذا الوقت كان كل الفنانين الشبان من الفرنسيين في جبهة القتال، فأصبحت هناك وظائف خالية للأجانب، وتولى مختار منصبًا مهمًّا في هذا المتحف، وهناك صورًا نادرة للتماثيل الشمعية التي صنعها مختار في متحف "جريفان" للشمع ومنها تمثال لأم كلثوم وآخر لراقصة البالية آنا بافلوفا.





محمود مختار

الميلاد وسنوات النشأة

عماد أبو غازي


بداية، سأحاول أن أقدم وجهة نظر ليست بالضرورة في الفن التشكيلي رغم أن الموضوع حول فنان تشكيلي، ولكنني سأحاول أن أجمع بين مجموعة من الأشياء بوصفي باحث في الوثائق والتاريخ، وفي الوقت نفسه كقريب لمحمود مختار مما مكنني من أن أرث مجموعة من وثائقه وأوراقه وصوره وتراثه بالإضافة إلى رؤيتي كشخص له اهتمام بالفن التشكيلي بدرجة أو بأخرى بحكم البيئة التي نشأت فيها. وسأحاول أن أمزج في المحاضرة بين أحداث الحياة السياسية والاجتماعية في مصر وبين أعمال محمود مختار.
يعتبر محمود مختار أحد رموز التحديث والاستنارة والنهضة في مصر في النصف الأول من القرن العشرين وواحد ممن قامت على أكتافهم دعائم عمليات التحديث ومحاولة بناء مصر الحديثة في أعقاب الثورة المصرية الكبرى ثورة 1919. في تقديري، لكي نتحدث عن النهضة أو عن التحديث لابد أن نتحدث عن التمرد بشكل أساسي، فالنهضة وليدة التمرد ولا يمكن أن تتحقق النهضة أو تقوم بدون أن يكون هناك جيل من المتمردين، المتمردين على أوضاعهم وعلى أوضاع مجتمعهم، وهذا ما تحقق لمصر في النصف الأول من القرن العشرين عندما ولد جيل شيد معالم نهضة جديدة في مصر وتميز معظم رجاله بالثورة والتمرد على التقاليد البالية وعلى الثوابت المجتمعية، لأن النهضة هدم لثوابت و بناء لثوابت جديدة مكانها.
ولو نظرنا إلى جميع رواد النهضة مثل طه حسين وهيكل والعقاد وتوفيق الحكيم ومختار وسيد درويش، فسنجد إن كل منهم كان متمردًا على الأشكال التقليدية في النوع الفني أو في المجال الإبداعي الذي برع فيه، كما أنه كان متمردًا أيضًا على قيم وتقاليد وثوابت المجتمع التي كانت تحتاج إلى تغيير. ولكي نعرف كيف تتولد لدى نخبة هذا الجيل المثقفة روح التمرد والثورة والرغبة في التغيير، فلابد أن نرجع إلى الظروف التي صاحبت مولدهم وتنشئتهم في أواخر القرن التاسع عشر. حيث شهدت مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر محاولة جديدة للنهضة بعد محاولة محمد علي التي انتهت بالفشل، وبدأت هذه المحاولة في عصر الخديوي إسماعيل، وامتدت إلى مجالات مختلفة في الثقافة وفي السياسة وفي مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ورغم أن تجربة التحديث في عصر إسماعيل انتهت هي الأخرى بالفشل بعد هزيمة الثورة العرابية والاحتلال البريطاني لمصر، إلا إنها أحدثت تحولات مهمة في الحياة المصرية، لقد شهدت تلك السنوات تغيير وجه الحياة المصرية، كانت المدينة المصرية تتغير وكذلك كانت القرية تتغير، كانت مصر تشهد حركة تحول من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، تنشأ وتظهر فيه أشكال فنية جديدة لتحل محل الأشكال التقليدية، وهذه هي الفترة التي أُنشئت فيها دار الأوبرا المصرية في عهد الخديوي إسماعيل، والتي بدأت فيها فرق مسرحية من الشام تأتي لتعمل على المسارح المصرية، والتي بدأت فيها فنون النحت والتصوير الأوروبية تنتشر في المجتمع المصري حيث كان يقوم بمباشرتها فنانين أوروبيين أزاحوا تدريجيا الأشكال الفنية التقليدية التي كانت متواجدة في هذه الفترة.
لقد انتهت هذه المحاولة الثانية للنهضة بكبوة ثانية مع الاحتلال البريطاني لمصر. وبعد الاحتلال البريطاني كسرت محاولة النهضة الثانية في القرن التاسع عشر والتي بدأت في عهد الخديوي إسماعيل، وعاشت مصر في فترة ظلام مرة أخرى تحطمت فيها مشروعات النخبة المصرية للديمقراطية ولبناء مجتمع مستقل ودولة حديثة، وانتهى الأمر بنفي زعيم الثورة أحمد عرابي، وسيطرة الخديوي توفيق على مقاليد الأمور في ظل الاحتلال البريطاني.
وفي هذه الفترة المليئة بالتحولات، التي عاشت فيها مصر بين مد وجزر، بين نهوض وإخفاق، بين أحلام بناء مصر للمصريين وواقع سقوطها في قبضة الاحتلال، في ظلال هذه الفترة ولد معظم الرواد من جيل أبناء الجيل الذي قامت على أكتافه النهضة المصرية في حلقتها الثالثة في النصف الأول من القرن العشرين.
في سنوات الاحتلال الأولى ولد من أصبحوا فيما بعد رواد نهضتنا الحديثة، لكن تكوينهم المتمرد الساعي إلى التغيير تشكَّل في ظل محاولة جديدة للإحياء والنهوض والبعث الوطني بدأت بعد الرحيل المبكر للخديوي توفيق عام 1892، وتولى الخديوي عباس حلمي الثاني عرش مصر، وحاول وهو حاكم شاب أن يستعيد سلطاته من الاحتلال البريطاني، الأمر الذي دفعه إلى الاستعانة بالشباب الوطني الذي بدأ في الظهور في هذه الفترة بزعامة مصطفى كامل، كما دفعه لمحاولة الاصطدام مع المستعمر البريطاني مستندًا إلى بقايا الحركة الوطنية التي كانت موجودة في مصر.
في ظل هذا المناخ، ولد محمود مختار وولد أقرانه من أبناء الريف المصري الذين صنعوا النهضة، نشأ معظمهم في الريف ثم انتقلوا إلى المدينة في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين. في أوائل القرن العشرين، تحديدًا في عام 1901، انتقل مختار إلى القاهرة لاحقًا بأمه ربما في تمرده الأول الذي بدأ في طفولته المبكرة. فقد رفض مختار الحياة في القرية لأنه عندما كان يصنع التماثيل من الطين ويقوم بحرقها في فرن المنـزل كان أخواله يعتبرون أن ما يقوم به عبارة عن إهدار للوقت، وكانت أمه قد انتقلت إلى القاهرة للعلاج، فقرر مختار الذي كان طفلاً صغيرًا لا يتعدى عمره السنوات العشر أن يهرب من القرية وأن يذهب إلى القاهرة ليلحق بأمه التي كانت تخطط لإلحاقه بالأزهر لكي يتخرج شيخًا بعد أن يكون قد درس دراسة دينية، وكان هذا منتهى طموح أي أسرة ريفية متوسطة في هذا الوقت.

الأربعاء، 6 يونيو 2007








قطعة نادرة وغير معروفة من النحت البارز المباشر في حجر الجرانيت الوردي للنحات المصري محمود مختار تمثل وجه إمرأة ترجع إلى منتصف العشرينيات من القرن الماضي
(محمود مختار 1891ـ1934)

الجمعة، 1 يونيو 2007



مختار متمردا...
عماد أبو غازي
من المتمردين الذين شيدوا بناء نهضتنا في القرن الماضي محمود مختار رائد فن النحت الحديث في مصر، لقد ولد سنة 1891 في ريف الدلتا ونشأ فيه، ومنذ سني طفولته في قرية نشا بلدة أمه عرف التمرد عندما كان يذهب وهو طفل صغير إلى مقهى القرية ليستمع إلى حكايات الراوي الشعبي، ثم يهرب من الكتاب إلى الترعة ليصنع من الطين الموجود على ضفافها تماثيل تجسد شخصيات هذه الحكايات.
وعندما أكمل مختار عامه العاشر كان تمرده الثاني، فعندما كان يصنع التماثيل من الطين ويقوم بحرقها في فرن المنـزل كان أخواله يعتبرون أن ما يقوم به عبارة عن إهدار للوقت، وكانت أمه قد انتقلت إلى القاهرة للعلاج، فقرر مختار أن يهرب من القرية وأن يذهب إلى القاهرة ليلحق بها، وقد ساعده على رحلة الهرب شيخ متمرد من شيوخ قريته هو الشيخ محمد أبو غازي.
وفي الوقت الذي كانت أمه تخطط لإلحاقه بالأزهر لكي يتخرج شيخًا، وكان هذا منتهى طموح أي أسرة ريفية متوسطة حينئذ، أسس الأمير يوسف كمال مدرسة الفنون الجميلة، فكان مختار أول طالب يلتحق بها متمردا على أحلام أمه، ومتحديا أخوته من الأب الذين كان يعتبرون أنه لن يكون إلا نقاشا بشهادة، فأسقط مختار من يومها اسم أبيه ولقب أسرته من أسمه وأصبح منتسبا إلى نفسه الحرة دون غيره، أصبح محمود مختار فقط وهو اسمه المركب.
وكانت مصر في تلك الفترة تشهد صعودًا للحركة الوطنية التي اصطدمت بمحاولات الاحتلال والخديوي والحكومة لمصادرة الحريات العامة فخرجت المظاهرات في الشوارع، وانخرط مختار فيها، وفي إحداها شد ذيل فرس حكمدار القاهرة الإنجليزي، وأسقطه أرضا، فقبض عليه وفصل من المدرسة وكان قد أصبح واحدا من قادة الطلاب بها، يتزعمهم في المظاهرات ويقود حركتهم ضد تغيير اللوائح، ولولا إيمان أساتذته بموهبته لما قدر له أن يكمل دراسته.
وفي عام 1911، خرج في أول بعثة مصرية لدراسة الفنون الجميلة في باريس وهناك أعاد اكتشاف مصريته فتمرد على التقاليد الفنية التي تعلمها في مدرسة الفنون في القاهرة وفي باريس وصاغ أسلوبه الفني الخاص به، فقد أعاد النظر في فن النحت المصري القديم وأعاد صياغته مرة أخرى في لحظة من لحظات التمرد وتحطيم ثوابت الفن التشكيلي وثوابت المجتمع التي كانت سائدة في هذا الوقت.
وكان من القيم الأساسية التي وضعها مختار من خلال أعماله في مسيرته للتمرد على الثوابت التقليدية إعلاء قيمة المرأة وقيمة العمل، فإحدى القيم الأساسية في أعمال مختار قيمة المرأة وهي تعمل، وتحديدًا المرأة الفلاحة، كانت المرأة رمزًا في كل أعمال مختار الفنية، وعندما نحت تمثال نهضة مصر أختار الفلاحة المصرية رمزا للنهضة، فكان بذلك متمردا من الطراز الأول على ثوابت مجتمعه، لقد جعل تمثالا لبنت ريفية مصرية يحتل أهم ميدان في العاصمة، وقد أكمل مختار عمله في التمثال أواخر عام 1926، ولم يزح الستار عن التمثال إلا في 20 مايو 1928، والسبب هو أن الملك فؤاد كان يرى أن ما قام به مختار من اختيار الفلاحة المصرية رمزاً للنهضة هو تحدي لسلطة القصر، فحتى ذلك الوقت لم يكن هناك تمثال ميدان في مصر إلا تماثيل أفراد الأسرة الحاكمة أو كبار رجال الدولة مثل نوبار باشا ولاظ أوغلي وسليمان باشا الفرنساوي، وحتى تمثال الزعيم مصطفى كامل لم يُسمح بإخراجه إلى موقعه الحالي إلا بعدها بسنوات طويلة، فكان اختيار الفلاحة المصرية رمزًا لنهضة مصر تحديًّا للسلطة، والذي زاد من ضراوة هذا التحدي أن مختار وقد أصبح النحات الأول في مصر الذي تلتف الجماهير حول فنه لم ينحت تمثالاً واحدًا للملك فؤاد، وعندما وجه له بعض أصدقائه النصح بضرورة عمل بورتريه نصفي للملك حتى يرضيه، بدأ في إعداد التمثال فأبدى الملك ملاحظات فنيه عليه، فما كان من مختار إلا أن دمر التمثال تمامًا ولم يكمله ولا توجد له إلا صورة وحيدة في مرحلة التشكيل بالطين، وكل الأعمال الأخرى التي صنعها مختار لشخصيات كانوا من وجهة نظره يمثلون رموزًا للاستنارة، أو لبعض أصدقائه وصديقاته.
لقد كان مختار دائم التمرد على ثوابت هذا المجتمع وانقطع هذا التمرد برحيله في مارس عام 1934، لكن إذا كان مختار قد رحل وتوقف إنتاجه الفني، فإن رحلة التمرد مازالت في حاجة إلى متمردين جدد