الجمعة، 1 يونيو 2007



مختار متمردا...
عماد أبو غازي
من المتمردين الذين شيدوا بناء نهضتنا في القرن الماضي محمود مختار رائد فن النحت الحديث في مصر، لقد ولد سنة 1891 في ريف الدلتا ونشأ فيه، ومنذ سني طفولته في قرية نشا بلدة أمه عرف التمرد عندما كان يذهب وهو طفل صغير إلى مقهى القرية ليستمع إلى حكايات الراوي الشعبي، ثم يهرب من الكتاب إلى الترعة ليصنع من الطين الموجود على ضفافها تماثيل تجسد شخصيات هذه الحكايات.
وعندما أكمل مختار عامه العاشر كان تمرده الثاني، فعندما كان يصنع التماثيل من الطين ويقوم بحرقها في فرن المنـزل كان أخواله يعتبرون أن ما يقوم به عبارة عن إهدار للوقت، وكانت أمه قد انتقلت إلى القاهرة للعلاج، فقرر مختار أن يهرب من القرية وأن يذهب إلى القاهرة ليلحق بها، وقد ساعده على رحلة الهرب شيخ متمرد من شيوخ قريته هو الشيخ محمد أبو غازي.
وفي الوقت الذي كانت أمه تخطط لإلحاقه بالأزهر لكي يتخرج شيخًا، وكان هذا منتهى طموح أي أسرة ريفية متوسطة حينئذ، أسس الأمير يوسف كمال مدرسة الفنون الجميلة، فكان مختار أول طالب يلتحق بها متمردا على أحلام أمه، ومتحديا أخوته من الأب الذين كان يعتبرون أنه لن يكون إلا نقاشا بشهادة، فأسقط مختار من يومها اسم أبيه ولقب أسرته من أسمه وأصبح منتسبا إلى نفسه الحرة دون غيره، أصبح محمود مختار فقط وهو اسمه المركب.
وكانت مصر في تلك الفترة تشهد صعودًا للحركة الوطنية التي اصطدمت بمحاولات الاحتلال والخديوي والحكومة لمصادرة الحريات العامة فخرجت المظاهرات في الشوارع، وانخرط مختار فيها، وفي إحداها شد ذيل فرس حكمدار القاهرة الإنجليزي، وأسقطه أرضا، فقبض عليه وفصل من المدرسة وكان قد أصبح واحدا من قادة الطلاب بها، يتزعمهم في المظاهرات ويقود حركتهم ضد تغيير اللوائح، ولولا إيمان أساتذته بموهبته لما قدر له أن يكمل دراسته.
وفي عام 1911، خرج في أول بعثة مصرية لدراسة الفنون الجميلة في باريس وهناك أعاد اكتشاف مصريته فتمرد على التقاليد الفنية التي تعلمها في مدرسة الفنون في القاهرة وفي باريس وصاغ أسلوبه الفني الخاص به، فقد أعاد النظر في فن النحت المصري القديم وأعاد صياغته مرة أخرى في لحظة من لحظات التمرد وتحطيم ثوابت الفن التشكيلي وثوابت المجتمع التي كانت سائدة في هذا الوقت.
وكان من القيم الأساسية التي وضعها مختار من خلال أعماله في مسيرته للتمرد على الثوابت التقليدية إعلاء قيمة المرأة وقيمة العمل، فإحدى القيم الأساسية في أعمال مختار قيمة المرأة وهي تعمل، وتحديدًا المرأة الفلاحة، كانت المرأة رمزًا في كل أعمال مختار الفنية، وعندما نحت تمثال نهضة مصر أختار الفلاحة المصرية رمزا للنهضة، فكان بذلك متمردا من الطراز الأول على ثوابت مجتمعه، لقد جعل تمثالا لبنت ريفية مصرية يحتل أهم ميدان في العاصمة، وقد أكمل مختار عمله في التمثال أواخر عام 1926، ولم يزح الستار عن التمثال إلا في 20 مايو 1928، والسبب هو أن الملك فؤاد كان يرى أن ما قام به مختار من اختيار الفلاحة المصرية رمزاً للنهضة هو تحدي لسلطة القصر، فحتى ذلك الوقت لم يكن هناك تمثال ميدان في مصر إلا تماثيل أفراد الأسرة الحاكمة أو كبار رجال الدولة مثل نوبار باشا ولاظ أوغلي وسليمان باشا الفرنساوي، وحتى تمثال الزعيم مصطفى كامل لم يُسمح بإخراجه إلى موقعه الحالي إلا بعدها بسنوات طويلة، فكان اختيار الفلاحة المصرية رمزًا لنهضة مصر تحديًّا للسلطة، والذي زاد من ضراوة هذا التحدي أن مختار وقد أصبح النحات الأول في مصر الذي تلتف الجماهير حول فنه لم ينحت تمثالاً واحدًا للملك فؤاد، وعندما وجه له بعض أصدقائه النصح بضرورة عمل بورتريه نصفي للملك حتى يرضيه، بدأ في إعداد التمثال فأبدى الملك ملاحظات فنيه عليه، فما كان من مختار إلا أن دمر التمثال تمامًا ولم يكمله ولا توجد له إلا صورة وحيدة في مرحلة التشكيل بالطين، وكل الأعمال الأخرى التي صنعها مختار لشخصيات كانوا من وجهة نظره يمثلون رموزًا للاستنارة، أو لبعض أصدقائه وصديقاته.
لقد كان مختار دائم التمرد على ثوابت هذا المجتمع وانقطع هذا التمرد برحيله في مارس عام 1934، لكن إذا كان مختار قد رحل وتوقف إنتاجه الفني، فإن رحلة التمرد مازالت في حاجة إلى متمردين جدد

ليست هناك تعليقات: