الاثنين، 8 أكتوبر 2007

الفنان والزعيم
تمثال مجهول للزعيم سعد زغلول
عماد بدر الدين أبو غازي

يعرف الناس علاقة المثال محمود مختار بسعد زغلول، أن مختار هو مبدع تمثالى الميدان للزعيم فى القاهرة والإسكندرية، وهما التمثالان اللذان شيدهما مختار بطلب من الحكومة المصرية فى إطار حملة تخليد ذكرى سعد، بعد رحيله فى 23 أغسطس 1927، وكانا إسهاما من مختار فى الاحتفاء بذكرى الزعيم، ومختار هو القائل " إن فى وجدان كل مصرى ـ ولو لم يكن فنانا ـ تمثالا لسعد زغلول[1]".
من خلال تمثالى سعد بالقاهرة والإسكندرية سجل مختار مجموعة من القيم والمفاهيم السياسية والوطنية، فلم يكن التمثالان مجرد تجسيد لشكل الزعيم وملامحه الشخصية، ولم يكونا مجرد تمثالى ميدان كغيرهما من التماثيل التى جمّلت ميادين القاهرة منذ القرن 19. لقد كانت المرة الأولى التى يحول فيها فنان مصرى تمثال الميدان الشخصى إلى ملحمة تٌعبر عن ثورة شعب وطموحاته وأهدافه وآمانيه القومية، فقاعدة تمثال الإسكندرية قامت على مشاهد تسجيلية لأحداث ثورة 1919، ورمزين مجسمين للوجهين البحرى والقبلى. وحين صور مختار العدالة والدستور والإستقلال على قاعدة تمثال القاهرة كان يسجل أهدافا يسعى الشعب المصرى إلى تحقيقها من خلال نضاله الوطنى وحين صور أصحاب الحرف ومشاهد العمل فى الريف وعلى صفحة النهر كان يخلد أبناء هذا الشعب الذين ثاروا سنة 1919 فى نحت جدارى ميدانى لأول مرة.
لقد كان بناء قاعدة تمثال سعد الجرانيتية فى القاهرة تشكيلا متكاملا مع تمثال الزعيم الذى يعلوها، إنها ليست مجرد قاعدة ترفع التمثال ولكنها تحمل إشارة واضحة إلى أن القاعدة بما فيها من بشر وقيم وأهداف هى التى رفعت الزعيم وحملته ليحتل مكانه البارز فى وجدان وتاريخ الأمة.
كذلك يشاهد زوار متحف مختار بالجزيرة تمثالا نصفيا لسعد وتمثالا آخر لرأس سعد ـ مأخوذا عن تمثال سعد الميدانى بالقاهرة ـ وهو واحد من أروع أعمال مختار فى فن التمثال الشخصى
[2].
وإذا كانت ثورة 1919 التى فجرها نفى سعد وصحبه هى البداية تفجر مختار وانطلاقه الفنى فى طريق إرساء ملامح مدرسة مصرية حديثة فى فن النحت، فقد كانت الثورة بداية لمرحلة جديدة فى حياة مصر الفكرية والفنية مثلما كانت بداية مرحلة جديدة فى حياتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية. وإذا كان مختار هو واحد من مشيدى أروع الرموز الفنية لتخليد ثورة 1919 وزعيمها، فإن ما لا يعرفه الناس عن علاقة الفنان بالزعيم، هو أن هذه العلاقة لم تسر دائما فى إتجاه التأييد والتمجيد من الفنان للزعيم بل مرت بمرحلة من الجفوة والمعارضة.
فى سياق الثورة كان لقاء مختار الأول بالوفد المصرى وزعيمه سعد، فعندما كان مختار فى باريس أشترك فى حركة الطلاب المصريين فى دعم الوفد المصرى فى مفاوضات السلام
[3]، وهناك كان إسهامه الأساسى فى التعبير الفنى عن الثورة من خلال النموذج الأول لتمثال النهضة الذى عرضه فى صالون باريس 1920. وأرسل سعد خطابا لمختار فى 6 مايو 1920 يشيد بالتمثال قال فيه:
"حضرة المصور الماهر مختار.
شاهدت المثّال الذى رمزت به لنهضة مصر فوجدته أبلغ رمز للحقيقة وأنهض حجة على صحتها فأهنيك على هذا الخيال الواسع وهذا الذوق السليم وهذا الفن الساحر وأهنئ مصر بأنك من أبنائها العاملين على إعادة مجدها وأرجو الله أن يعين هذه النهضة حتى تبلغ كمالها فتشفع مثال النهضة بمثال الإستقلال والسلام."
سعد زغلول
باريس 6 مايو سنة 1920


بطل النهضة
ويتحمس بعض أعضاء الوفد للتمثال وتبدأ الدعوة فى جريدة الأخبار لأكتتاب شعبى لإقامة التمثال فى مصر..( ويعود مختار إلى مصر بطلا من أبطال نهضتها.. فتمثاله رمز للنهضة وعلامة من علامات الثورة والبعث فهو أول أثر فنى يقيمه مصرى.. ويقيمه فى عهد " السلاطين " ولكنه لا يرمز للنهضة بالحاكم وإنما يرمز لها بالشعب ويجعل الفلاحة فى الميدان العام رمزا لمصر"
[4] وبدأ العمل فى التمثال إعتمادا على التبرعات الشعبية وعلى الدعم الحكومى الذى قدمته وزارة عبد الخالق ثروت ومقداره 3000 جنيه وعقب صدور دستور 23 وتشكيل أول برلمان وطنى أنبرى ويصا واصف للدفاع عن التمثال وضرورة توفير الإعتمادات الكافيه لإنجازه واستجاب سعد زغلول وكان على رأس الوزارة لهذه الدعوة إذ رأى أن حكومة النهضة يجب أن تتكفل بتمثالها[5].
وفى هذه المرحلة التى أعقبت قيام الحكم البرلمانى وما شهدته من صراعات سياسية وفكرية وانشقاقات خرجت عن الوفد المصرى، تعارضت نظرة مختار إلى سعد رئيس الحكومة ورئيس البرلمان والسياسى الذى يصارع على الساحة السياسية فى الداخل مع نظرته لسعد زعيم الأمة وقائد الثورة، ووقف مختار فى كثير من الأحيان فى مواجهة مع سعد ومواقفه وقدم من خلال مجلة " الكشكول " مجموعة من الرسوم الكاريكاتورية عرفت باسم " الزغلوليات " أنتقد فيها بعض مواقف سعد وسخر منها، كما قدم كذلك رسوما كاريكاتورية ساخرة فى " السياسة الأسبوعية " ، ومن اللافت للنظر أن كثيرا من الأدباء والمفكرين ذوى الميول الليبرالية والديمقراطية قد أنحازوا فى هذه الفترة إلى جانب حزب الأحرار الدستوريين أو التفوا حول جريدته الأسبوعية التى كانت فى تلك المرحلة من العشرينات أحد أهم المنابر الثقافية فى مصر. وربما يرجع ذلك إلى أن حزب الأحرار كان منحازا بالكامل إلى جانب حرية الفكر فى بعض القضايا التى أثيرت فى تلك الفترة، بينما كان الوفد متحفظا إلى حد ما ومتبنيا لمواقف أقل حسما، مثلما حدث عند إثارة قضيتى " السلام وأصول الحكم" و " الشعر الجاهلى".
كذلك كان موقف سعد من معارضيه وموقفهم الحاد منهم مجالا لإنتقاد مختار له.
ولم تقتصر إنتقادات مختار لسعد على الرسوم الكاريكاتورية، فقد نحت تمثالا لسعد يعد من أعمال النحت الكاريكاتورى النادر مثل فيه سعدا مرتديا ملابس فقراء الهنود وجالسا فى جلسة التأمل فى اليوجا ومرتديا فى نفس الوقت ياقة منشاة ورابطة عنق ( بابيون) فى إشارة إلى التعارض بين المواقف والأقوال، مع تضخيم الأذنين بشكل مبالغ فيه تلميحا إلى أن سعد يستمع إلى الوشايات التى تنقل إليه لقد حاول مختار أن يلخص فى هذا التمثال الساخر رأيه الناقد لسعد فى مرحلة من مراحل حياته السياسة.
وقد ظل هذا التمثال مجهولا لعشرات السنين إلى أن كشف عنه فى محاضرة ألقيت بمتحف مختار أثناء الإحتفال بالعيد المئوى لميلاد مختار
[6]، ولا يزال التمثال فى حوزة أسرة مختار إلى الآن[7] والتمثال قد صب فى الجبس ويمثل مع مجموعة آخرى من التماثيل الساخرة أحد جوانب فن مختار. التى لم يلق عليها الضوء الكافى بعد ومن هذه التماثيل الساخرة تمثالا صديقى مختار حسين رجب ومحمد شفيق، ولعل أشهرها تمثال ابن البلد، والذى يرجع إلى مرحلة دراسة مختار فى مدرسة الفنون بالقاهرة.
وقد أثارت رسوم مختار وانتقاداته حفيظة سعد عليه وأدت إلى قطيعة بينهما دامت سنوات إلى أن التقيا مصادفة فى فندق ميناهاوس وتصافيا وتصالحا، ثم قام بعدها سعد بزيارته الشهيرة لموقع العمل فى تمثال النهضة بصحبة جماعة من الساسة والأدباء والصحفيين، وقد أحتفى مختار بسعد إحتفاء بالغا فى تلك الزيارة التى كانت من أيام الوداع فى حياة سعد فلم يمهل القدر مختارا حتى يحظى بمشاركة سعد فى حفل إزاحة الستار عن تمثال النهضة بسبب مماطلات الحكومة التى أجلت الحفل لشهور طوال كان سعد قد فارق الحياة.
لقد إنقضت بذهاب سعد تفاصيل الخلافات العابرة والإنتقادات الساخرة ولم يبق إلا الرمز الذى خلفه كزعيم للأمة واستوحاه مختار فى تمثاليه الميدانيين لسعد، هذان التمثالان اللذان تسببا فيما لاقاه مختار من عنت وإضطهاد فى سنواته الأخيرة ورحل قبل أن يراهما قائمين فى مكانيهما
[8]، مثلما رحل سيد درويش قبل أن يستمع إلى الجماهير وهى تنشد لحنه فى إستقبال سعد عند عودته من منفاه فى المرة الثانية.
مصرنا وطنا سعدها أملنا
كلنا جميعا للوطن ضحية
[1] بدر الدين أبو غازى: المثال مختار ، الدار القومية للطباعة والنشر، 1964، ص 59.
[2] حول تماثيل مختار عن سعد أنظر: بدر الدين أبو غازى: مختار حياته وفنه، مطبعة مصر، 1949، ص 82 ـ 88 وص 121ـ 124. والمثال مختار، ص 22ـ 24. أنظر كذلك رأى العقاد الناقد للتمثالين فى:
عباس محمود العقاد: سعد زغلول سيرة وتحية مطبعة حجازى، 1936 ص 619ـ 620.
[3] داود عزيز: مختار رائدا ( مجلة الطليعة، مارس 1969) ، ص 64.
[4] المثال مختار، ص 18.
[5] مختار حياته وفنه، ص 41ـ 42.
[6] عماد أبو غازى مختار وسعد زغلول ، محاضرة ألقيت فى متحف مختار يوم 5 أغسطس 1991.
[7] رأت أسرة مختار أنه من غير المناسب الكشف عن التمثال وعرضه فى وقت كان هناك قدر كبير من الغبن يحيط بثورة 1919 وزعمائها، ومع تغير الظروف أصبح من الضرورى الكشف عن التمثال وعرضه على الناس.
[8] المثال مختار، ص 59 ـ 65.