الزعيم والطاغية
عندما توفي الزعيم سعد زغلول في 23 أغسطس سنة 1927 شيعته جماهير الشعب المصري في جنازة مهيبة شارك فيها عشرات الآلاف من المصريين، وبعد أن انتهت مراسم الحداد الرسمي والحزن الشعبي الذي فاق الوصف، بدأ التفكير في خطوات تخليد ذكرى زعيم الأمة، وكانت الوزارة التي تتولى الحكم وزارة ائتلافية يؤيدها الوفد المصري.
وكان من القرارات التي اتخذتها الحكومة لتخليد ذكرى سعد شراء بيته واعتباره من الأملاك العامة لصيانة آثار سعد الباقية فيه، وتشييد ضريح يليق بالزعيم، ينقل إليه جثمانه بعد الانتهاء من تشييده، على أن يستلهم تصميمه من خطوط العمارة المصرية القديمة، وتقرر أن يشيد الضريح في أرض خالية بالقرب من بيت سعد الذي عرف باسم "بيت الأمة" منذ بدأ الرجل يقود حركة الشعب المصري نحو الاستقلال أواخر عام 1918.
كما قررت الحكومة كذلك إقامة تمثالين للزعيم واحد في القاهرة والثاني في الإسكندرية، واستدعت الحكومة المثال مختار من باريس لتكلفه بإقامة التمثالين، كان مختار وقتها أبرز نحات مصري، وكانت له قصة طويلة مع الثورة المصرية، ثورة 1919 منذ عبر عنها بتمثاله الرائع نهضة مصر الذي التف حوله الشعب بكل طبقاته، وتحمس مختار للفكرة ولبى الدعوة واعتبر المهمة عملا قوميا يتيح له تسجيل حياة الشعب المصري وكفاحه ومثله السياسية التي كان يناضل من أجله من خلال تمثالي الزعيم، وكانت فكرة التمثالين حاضرة في ذهن مختار، فهو القائل: "إن في وجدان كل مصري ولو لم يكن فنانا تمثالا لسعد زغلول".
وتقرر أن يقام تمثال القاهرة في ميدان قصر النيل بينما يقام تمثال الإسكندرية في محطة الرمل، وأراد مختار أن يكون عمله صرحا كبيرا يرتفع إلى عنان السماء ليرفع زعيم الأمة إلى المكانة التي يستحقها.
وتعاقدت الحكومة مع مختار وتقرر في العقد أن يعهد إلى الفنان بالتنفيذ الكامل، وأن تكون الحكومة طرفا في التعاقد معه، تلتزم بما تقضي به أحكام العقد دون تدخل في عمل المثال، أو في الجوانب الفنية.
وكان من الممكن أن تسير الأمور في مسارها الطبيعي ويشيد الضريح وينقل إليه جثمان سعد، ويرتفع التمثالان في القاهرة والإسكندرية، خاصة أن مختار كان يطمح في إنهاء العمل خلال عام واحد فقط. لكن الملك فؤاد كان يعتبر سعدا حتى بعد وفاته خصما لدودا له، كما كان للزعيم خصومه السياسيون من بين الساسة ورجال الأحزاب الموالين للسرايا والإنجليز. ولم ينس خصوم سعد للرجل مواقفه خاصة في سنواته الأخيرة، وقيادته لثورة الشعب عام 1919، ودفاعه المجيد عن إقامة حياة دستورية سليمة، لقد كانت القوى الرجعية تتحين كل فرصة للانقضاض على المكاسب الديمقراطية التي حققتها ثورة 1919، وتحرص دائما على حصار الحريات العامة التي اكتسبها الشعب بكفاحه، وتسعى إلى تحطيم رموز الحرية الفكرية.
وعندما وقع الانقلاب الدستوري في عام 1930، وجاءت إلى الحكم وزارة إسماعيل صدقي باشا الموالية للسراي والمعادية للشعب توالت الاعتداءات على الدستور وعلى حرية الفكر والتعبير في البلاد، فألغي دستور 1923 ليحل محله دستور 1930 الذي زاد من سلطات الملك على حساب سلطات البرلمان المنتخب وعلى حساب حقوق الشعب، وتعرض كثير من المفكرين لعدوان السلطة، فسجن العقاد بتهمة العيب في الذات الملكية، وأبعد طه حسين عن الجامعة، فاستقال أحمد لطفي السيد من منصبه كمدير للجامعة المصرية، وفصل حافظ إبراهيم من دار الكتب المصرية، أما مختار فكان نصيبه من الهجمة الرجعية عرقلة العمل في مشروع تمثالي سعد زغلول بالقاهرة والإسكندرية، وكان الهدف من العرقلة مزدوجا سعد ومختار في آن واحد، فهناك "تار بايت بين الملك ومختار" منذ اختار الفلاحة رمزا يعبر به عن مصر، ومنذ نحت تماثيل شخصية لرجل العصر الذين شيدوا دعائم الحرية من أمثال عدلي يكن وعبد الخالق ثروت وسعد زغلول، ولم يعرض أن ينحت تمثالا للملك فؤاد، وعندما طلب منه ذلك وبدأ في نحت التمثال مرغما، توقف عن العمل فيه بمجرد أن أبدى فؤاد ملاحظات فنيه على العمل، ولم يتبق منه سوى صورة فوتوغرافية للتمثال في مرحلة الإعداد الأولي، وبدلا من ذلك نحت تمثالا كاريكاتيريا ساخرا من الملك، وقام بعض أصدقائه المقربين من السرايا بتحطيم التمثال حماية لمختار وخوفا عليه عندما علموا بأن خبره تسرب إلى الملك.
أما سعد فلم تكتف الحكومة بعرقلة العمل في تمثاليه، بل استولت على ضريحه ونقلت إليه مومياوت الفراعنة بحجة عدم ملائمة عرضها على الجمهور، لتشغل المكان وتوقف إجراءات نقل الجثمان.