قلة نهضة مصر
عماد أبو غازي
أثناء قيامي بإخلاء شقة جدتي عثرت على صندوق كبير فوق دولاب خشبي متهالك، الصندوق كان مغلقا بإحكام وعناية، ولأن منزل جدتي الذي كانت تسكن فيه منذ 1935 مليء بأشياء غريبة وطريفة فقد توقعت أن أعثر في هذا الصندوق على "كنز"، والكنز الذي أتوقعه وأنتظره ليس كنزا من المال فهي لم تكن تملك منه الكثير، لكن "كنزها" الكنز الذي يهمني ويعنيني كباحث في التاريخ والوثائق، كنز الأوراق القديمة والصور الفوتوغرافية والتذكارات، خصوصا أن سكان هذا المنزل جدتي وبناتها وشقيقتها، أسرة المثال مختار، وقد عشن فيه سبعين عاما، كما عاش فيه أبي منذ صباه حتى تزوج عام 1950، إن المنزل بالنسبة لي صندوقا للذكريات والأسرار جاءت الفرصة لفتحه وأنا أخلي الشقة بعد رحيل جميع ساكنيها، نرجع مرة أخرى للصندوق، لم أستطع الانتظار حتى أنزل بالصندوق من فوق الدولاب، فتحته وأنا نصف معلق في الهواء، كان أول ما اكتشفته شجرة للعائلة تتضمن نسب الذكور أبناء الذكور فقط، رسمها أحد أفراد العائلة وأهداها إلى أبي باعتباره ابن شقيقة مختار، ويرجع تاريخها إلى عام 1946، فقدرت بالخبرة المهنية كمتخصص في الأشياء القديمة، أن الصندوق أغلق في ذلك العام، عام 46 وليس قبل ذلك، ومع مزيد من الحفريات في أعماق الصندوق اكتشفت مجموعة من الصور الفوتوغرافية ترجع إلى بدايات القرن الماضي وخطابات وشهادات وأوراق قديمة أخرى، كان من أطرفها بالنسبة لي "شهادة تحقيق شخصية للخدامين" صادرة عن نظارة الداخلية في 10 فبراير 1917، والشهادة باسم مرسيلة عبد الله المولودة بالسودان والمقيمة بالداودية بالدرب الأحمر، سنها 50 سنة وتعمل طباخة، وتحمل الشهادة المدونة بالعربية والإنجليزية صورة الست مارسيلة، ومن النظرة الأولى يتضح أن الصورة لصاحبة تمثال لمختار، البورترية المعروف باسم رأس زنجية، ومرسيلة هذه أو كما كانت تسميها جدتي داده مارسينا طبخة تعيش مع الأسرة، وهي طفلة سودانية خطفها تجار الرقيق وباعوها في مصر قبل إلغاء الرق، واشترها جد جدتي في أوائل سبعينات القرن التاسع عشر، وتحررت مثل غيرها لكنها ظلت مرتبطة بالأسرة التي تربت في كنفها، وعندما كان مختار طالبا في مدرسة الفنون كان وجه مرسيلة أول وجه نسائي خلده في تمثال، عثرت أيضا على علبة صغيرة من القطيفة الخضراء بداخلها كارتين من الكارتون يحمل الأول صورة للزعيم مصطفى كامل محاطة بإطار مذهب وعليه عبارة "فلتحي ذكرى مصطفى كامل باشا"، وعلى الكارت الثاني وضعت صورة لقداسة الأنبا كيرلس الخامس محل صورة مصطفى كامل ودونت عبارة مماثلة لتلك المدونة على الكارت الأول، وعلى ظهر الكارتين عبارة: "المصور المصري حسن راسم حجازي بحارة أحمد طاهر بطنطا".
وعندما وصلت إلى القاع اكتشفت ما اعتبرته أهم كشف "أُسري"، غطاء قلة نهضة مصر، أخيرا عثرت على هذا التراث العائلي الذي كانت جدتنا تحكي لنا عنه وكنت أظنه أسطورة من الأساطير، كانت جدتي تحكي لنا دائما عن أن أحد مظاهر الاحتفاء الشعبي بتمثال نهضة مصر تمثل في صنع أغطية للقلل تحمل نموذجا مصغرا لتمثال النهضة، وكنت قد عاصرت وأنا صغير إنتهاء عصر القلة في بيوت الأسرة القديمة ومنها بيت جدتي، وكانت للقلل في زمننا أغطية من البلاستيك الملون، وكان السؤال الذي يشغل ذهني وأنا صغير إذا كانت أغطية القلل التي تحمل تمثال النهضة حقيقة وليست خيال فلماذا لا تستخدمها جدتي ؟ أخيرا وجدتني أمام الإجابة أمام القارة المفقودة، ثلاثة لفافات قُمعية الشكل مغلفة بإتقان بورق أزرق داخل كل لفافة غطاء قلة من المعدن الأبيض اللامع فوقه نموذج مذهب لتمثال نهضة مصر، أصغر نموذج شاهدته في حياتي للتمثال.
إن غطاء القلة هذا يعكس كيف تحول عمل فني تشكيلي إلى جزء من وجدان الأمة بكل طبقاتها، كان تمثال النهضة رمزا للثورة المصرية جسد من خلاله مختار طموح الثورة المصرية لاستعادة الروح الوطنية، فلقي التأييد من كل المصريين فأشاد به الزعيم سعد زغلول في رسالة بعث بها إلى مختار بعد أن شاهد النموذج المصغر الذي عرضه مختار في معرض باريس، ودعا مجموعة من الساسة والمثقفين لإقامة التمثال في ميدان من ميادين القاهرة، وتبنت جريدة الأخبار حملة لجمع التبرعات للتمثال، وقد شارك بالتبرع أغنياء مصر كما شارك الفقراء من كافة الطبقات بملاليم قليلة تجمعت لتصبح ثلاثة آلاف جنيه وهذا مبلغ كبير جدا بمقاييس وقتها، وقد نشر بدر الدين أبو غازي في كتابه عن المثال مختار قوائم التبرعات ونماذج من الخطابات التي أرسلها بسطاء المصريين طلاب وعمال وربات بيوت وباعة جائلين وباعة ترمس مع تبرعاتهم، لقد أصبح إحساس الناس عن حق أن التمثال ملكهم جميعا، وتكونت علاقة بين التمثال والناس لم تحدث من قبل في تاريخ الفن، فاتخذته الشركات الصناعية وشركات السينما وشركات النقل ودور النشر والمراكز البحثية والبنوك شعارا لها، لكن أجمل ما رأيته هذا التجسيد الشعبي البسيط للتمثال الرمز، غطاء القلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق